في القصة أنّ هذا الرجل استعجل الراحة فعوقب بأن حرم الله عليه الجنة بسم الله الرحمن الرحيم (
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعدَ الله أوقاتكم بكل خير .
، قصةٌ رواها من الصحابة جُنْدَبُ بنُ عبد الله رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله الله صلى الله عليه وسلم :«كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ ، فَجَزِعَ ، فَأَخَذَ سِكِّينًا ، فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» .
هذه القصة أخرجها الشيخان في الصحيحين .
وما مضى لفظ الإمام البخاري . لفظ مسلم :« إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَتْ بِهِ قَرْحَةٌ ، فَلَمَّا آذَتْهُ انْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَنَكَأَهَا ، فَلَمْ يَرْقَأْ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ ، قَالَ رَبُّكُمْ : قَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ » .
وأقف معها ستَّ وقفات :
الوقفة الأولى في شرح الغريب .
الْقَرْحَة بِفَتْحِ الْقَاف وَإِسْكَان الرَّاء وَهِيَ وَاحِدَة الْقُرُوح ، وَهِيَ حَبَّاتٌ تَخْرُجُ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ . أو هي الجرح إذا دبَّ إليه الفساد . وبهذا يُجمع بين الروايتين ، فكان به جرح ثم آل إلى قَرحة .
وَالْكِنَانَةُ بِكَسْرِ الْكَاف هِيَ : جَعْبَة النُّشَّاب –هكذا بفتح الجيم- ، سُمِّيَتْ كِنَانَة ؛ لِأَنَّهَا تَكِنُّ السِّهَام ، أَيْ : تَسْتُرهَا .
ونكأها : فتحها وخرقها .
«حزّ بها يده» : قطعها . جزع : لم يصبر . «فما رقأ الدم» : لم يتوقف تدفقه .
الوقفة الثانية :
من أهم الفوائد التي أرشدت إليها هذه القصة : أنّ الانتحار من كبائر الذنوب . نهى الله عنه بقوله :} ولا تقتلوا أنفسكم{ . وتوعد رسول الله الله صلى الله عليه وسلم من قتل نفسه في أحاديثَ كثيرةٍ .. ففي مسلم قال النبي الله صلى الله عليه وسلم :«مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي النَّارِ» ، وفي رواية :« َمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وفي أخرى :« مَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ ذُبِحَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وفي صحيح البخاري :« الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ ، وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ».
وثبت في الصحيحين قولُ نبيِّناالله صلى الله عليه وسلم :« مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» .
واسمع هذه الحادثةَ –أخي الكريم- لتعلم خطورة الإقدام على هذه الحماقة ، حماقةَ الانتحار .
ثبت في الصحيح عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ الله صلى الله عليه وسلم الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا ، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى عَسْكَرِهِ وَمَالَ الْآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ الله صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ ، فَقَالُوا : مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلَانٌ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ الله صلى الله عليه وسلم : «أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : أَنَا صَاحِبُهُ أَبَدًا . قَالَ : فَخَرَجَ مَعَهُ ، كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ ، قَالَ : فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ . فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ . قَالَ :«وَمَا ذَاكَ» ؟ قَالَ : الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ ، فَقُلْتُ : أَنَا لَكُمْ بِهِ . فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ حَتَّى جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ ، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ الله صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ :«إِنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» .
وثبت أنّ رجلاً قتل نفسه فلم يصلِّ عليه النبي الله صلى الله عليه وسلم
الوقفة الثالثة :
الذي حمل هذا الرجل على أن يقدم على هذه الحماقة : الجزع . ولذا فالصَّبر خير عزاء لأهل البلاء ، وأيم الله أيها المستمعون ، لا يبرح الصبر قائمة أخلاقنا إلا ساء عيشنا ، وتغصت حياتنا ، والعكس بالعكس ، ولذا من درر علي رضي الله عنه :" وجدنا خير عيشنا بالصبر".
الصبر كاسمه ، مرٌّ مذاقته ، لكن عواقبه ، أحلى من العسل .
ومما يحمل على الصبر : أن يُعلم : أنّ الانتحار لن يزيل البلاء ، وإنما سيزج بأهله في النار ، وهذا بلاء ما بعده بلاء .
الذي تتراكم عليه الهموم فيصبر سيكفرُ الله عنه سيئاته ، ويدخلُه مدخلاً كريماً .
والذي يُصاب بالمصائب فيقتل نفسه انتقل من عذاب الدنيا إلى عذاب جهنم .. ما أجملَ عاقبة الصبر . وما أقبحَ هذه الجريرة التي تجر بأصحابها إلى نار جهنم .
الوقفة الرابعة :
في القصة أنّ هذا الرجل استعجل الراحة فعوقب بأن حرم الله عليه الجنة ، فلم يحظ بمراده . ففيه دليل على القاعدة المعروفة : من استعجل الشيءَ قبل أوانه عوقب بحرمانه .
الوقفة الخامسة :
ليس أحاديث تحريم قتل الإنسان لنفسه دليلاً على مذهب الخوارج الذين يكفرون بارتكاب الكبائر . فعقيدتنا أنّ كل ذنب سوى الشرك بالله لا يُخلد صاحبه في النار . وإنما هو تحت المشيئة ، إن شاء الله عفا عنه وإن شاء عذب أصحابه ، ولكنهم لا يُخلدون في النار ، فلا يخلد في النار إلا الشرك بالله .
فإن قيل : كيف نوفق بين هذا وبين قول الله تعالى : حرمت عليه الجنة .
الجواب بواحد من الوجوه التالية :
1. أنّ هذا الرجل كان مستحلاً ، ومستحل الحرام كافر مخلد في النار .
2. أو يقال : حرمها عليه حين يدخلها الأبرار ، ثم يكون يدخلها بعد ذلك .
3. وَيُحْتَمَل أَنَّ شَرْع أَهْل ذَلِكَ الْعَصْر تَكْفِير أَصْحَاب الْكَبَائِر
4. أو أنّ هذا الرجل كان كافراً في الأصل وعوقب بذلك زيادةً على كفره .
5. أو أنّ المراد جنةٌ معينة ، كالفردوس مثلاً .
وقيل غير ذلك . وعلى أية حال فلا يمكن أن يتمسك التكفيريون بمثل هذه النصوص . وسأورد قصةً هي قاصمة الظهر لهم ..
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ أَتَى النَّبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ :يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ ، وَمَنْعَةٍ؟ قَالَ : حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ . فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي ذَخَرَ اللَّهُ لِلْأَنْصَارِ ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ ، فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ ، فَمَرِضَ ، فَجَزِعَ ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ : مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ : غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ الله صلى الله عليه وسلم . فَقَالَ : مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ ؟ قَالَ : قِيلَ لِي : لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ . فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ الله صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ الله صلى الله عليه وسلم :«اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ» [خرجها مسلم في صحيحه] .
فأين يفرون من هذه القصة ؟
الوقفة السادسة:
وأختم بها إن شاء الله :
ليس في الحديث دليلٌ للمعتزلة . ماذا يقول المعتزلة ؟ يقولون : المقتول مقطوع عليه أجله . ولولا قتل القاتل لنفسه أو لغيره لعاش المقتول .
وهذا سفه قلّ مثله . ومن عجب أنهم استدلوا بهذا الحديث .«بادرني عبدي بنفسه» . فقالوا : كان أجله إلى أبعد من ذلك فبادر به .
والرد عليهم من وجوه كثرة أجتزئ منها وجهين :
الأول : المراد بالمبادرة مباشرة الأسباب المحرمة . قال ابن حجر رحمه الله :" هي مُبَادَرَة مِنْ حَيْثُ التَّسَبُّب فِي ذَلِكَ وَالْقَصْد لَهُ وَالِاخْتِيَار ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَة لِوُجُودِ صُورَتهَا". أي : وليس المراد أنّ له أجلاً غير هذا لم يبلغه . فالقاتل يعاقب لأنه باشر الأسباب المحرمة .
الثاني : كيف يكتب الله أجلاً للإنسان ولا يبلغه؟ أجل الله لا يتقدمه أحد ولا يستأخر عنه . قال تعالى :}وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ{ .
أكتفي بهذا القدر ، وأترككم في حفظ الله، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على نبينا وسيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعدَ الله أوقاتكم بكل خير .
، قصةٌ رواها من الصحابة جُنْدَبُ بنُ عبد الله رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله الله صلى الله عليه وسلم :«كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ ، فَجَزِعَ ، فَأَخَذَ سِكِّينًا ، فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» .
هذه القصة أخرجها الشيخان في الصحيحين .
وما مضى لفظ الإمام البخاري . لفظ مسلم :« إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَتْ بِهِ قَرْحَةٌ ، فَلَمَّا آذَتْهُ انْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَنَكَأَهَا ، فَلَمْ يَرْقَأْ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ ، قَالَ رَبُّكُمْ : قَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ » .
وأقف معها ستَّ وقفات :
الوقفة الأولى في شرح الغريب .
الْقَرْحَة بِفَتْحِ الْقَاف وَإِسْكَان الرَّاء وَهِيَ وَاحِدَة الْقُرُوح ، وَهِيَ حَبَّاتٌ تَخْرُجُ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ . أو هي الجرح إذا دبَّ إليه الفساد . وبهذا يُجمع بين الروايتين ، فكان به جرح ثم آل إلى قَرحة .
وَالْكِنَانَةُ بِكَسْرِ الْكَاف هِيَ : جَعْبَة النُّشَّاب –هكذا بفتح الجيم- ، سُمِّيَتْ كِنَانَة ؛ لِأَنَّهَا تَكِنُّ السِّهَام ، أَيْ : تَسْتُرهَا .
ونكأها : فتحها وخرقها .
«حزّ بها يده» : قطعها . جزع : لم يصبر . «فما رقأ الدم» : لم يتوقف تدفقه .
الوقفة الثانية :
من أهم الفوائد التي أرشدت إليها هذه القصة : أنّ الانتحار من كبائر الذنوب . نهى الله عنه بقوله :} ولا تقتلوا أنفسكم{ . وتوعد رسول الله الله صلى الله عليه وسلم من قتل نفسه في أحاديثَ كثيرةٍ .. ففي مسلم قال النبي الله صلى الله عليه وسلم :«مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي النَّارِ» ، وفي رواية :« َمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وفي أخرى :« مَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ ذُبِحَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وفي صحيح البخاري :« الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ ، وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ».
وثبت في الصحيحين قولُ نبيِّناالله صلى الله عليه وسلم :« مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» .
واسمع هذه الحادثةَ –أخي الكريم- لتعلم خطورة الإقدام على هذه الحماقة ، حماقةَ الانتحار .
ثبت في الصحيح عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ الله صلى الله عليه وسلم الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا ، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى عَسْكَرِهِ وَمَالَ الْآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ الله صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ ، فَقَالُوا : مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلَانٌ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ الله صلى الله عليه وسلم : «أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : أَنَا صَاحِبُهُ أَبَدًا . قَالَ : فَخَرَجَ مَعَهُ ، كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ ، قَالَ : فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ . فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ . قَالَ :«وَمَا ذَاكَ» ؟ قَالَ : الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ ، فَقُلْتُ : أَنَا لَكُمْ بِهِ . فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ حَتَّى جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ ، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ الله صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ :«إِنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» .
وثبت أنّ رجلاً قتل نفسه فلم يصلِّ عليه النبي الله صلى الله عليه وسلم
الوقفة الثالثة :
الذي حمل هذا الرجل على أن يقدم على هذه الحماقة : الجزع . ولذا فالصَّبر خير عزاء لأهل البلاء ، وأيم الله أيها المستمعون ، لا يبرح الصبر قائمة أخلاقنا إلا ساء عيشنا ، وتغصت حياتنا ، والعكس بالعكس ، ولذا من درر علي رضي الله عنه :" وجدنا خير عيشنا بالصبر".
الصبر كاسمه ، مرٌّ مذاقته ، لكن عواقبه ، أحلى من العسل .
ومما يحمل على الصبر : أن يُعلم : أنّ الانتحار لن يزيل البلاء ، وإنما سيزج بأهله في النار ، وهذا بلاء ما بعده بلاء .
الذي تتراكم عليه الهموم فيصبر سيكفرُ الله عنه سيئاته ، ويدخلُه مدخلاً كريماً .
والذي يُصاب بالمصائب فيقتل نفسه انتقل من عذاب الدنيا إلى عذاب جهنم .. ما أجملَ عاقبة الصبر . وما أقبحَ هذه الجريرة التي تجر بأصحابها إلى نار جهنم .
الوقفة الرابعة :
في القصة أنّ هذا الرجل استعجل الراحة فعوقب بأن حرم الله عليه الجنة ، فلم يحظ بمراده . ففيه دليل على القاعدة المعروفة : من استعجل الشيءَ قبل أوانه عوقب بحرمانه .
الوقفة الخامسة :
ليس أحاديث تحريم قتل الإنسان لنفسه دليلاً على مذهب الخوارج الذين يكفرون بارتكاب الكبائر . فعقيدتنا أنّ كل ذنب سوى الشرك بالله لا يُخلد صاحبه في النار . وإنما هو تحت المشيئة ، إن شاء الله عفا عنه وإن شاء عذب أصحابه ، ولكنهم لا يُخلدون في النار ، فلا يخلد في النار إلا الشرك بالله .
فإن قيل : كيف نوفق بين هذا وبين قول الله تعالى : حرمت عليه الجنة .
الجواب بواحد من الوجوه التالية :
1. أنّ هذا الرجل كان مستحلاً ، ومستحل الحرام كافر مخلد في النار .
2. أو يقال : حرمها عليه حين يدخلها الأبرار ، ثم يكون يدخلها بعد ذلك .
3. وَيُحْتَمَل أَنَّ شَرْع أَهْل ذَلِكَ الْعَصْر تَكْفِير أَصْحَاب الْكَبَائِر
4. أو أنّ هذا الرجل كان كافراً في الأصل وعوقب بذلك زيادةً على كفره .
5. أو أنّ المراد جنةٌ معينة ، كالفردوس مثلاً .
وقيل غير ذلك . وعلى أية حال فلا يمكن أن يتمسك التكفيريون بمثل هذه النصوص . وسأورد قصةً هي قاصمة الظهر لهم ..
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ أَتَى النَّبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ :يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ ، وَمَنْعَةٍ؟ قَالَ : حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ . فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي ذَخَرَ اللَّهُ لِلْأَنْصَارِ ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ ، فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ ، فَمَرِضَ ، فَجَزِعَ ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ : مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ : غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ الله صلى الله عليه وسلم . فَقَالَ : مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ ؟ قَالَ : قِيلَ لِي : لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ . فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ الله صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ الله صلى الله عليه وسلم :«اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ» [خرجها مسلم في صحيحه] .
فأين يفرون من هذه القصة ؟
الوقفة السادسة:
وأختم بها إن شاء الله :
ليس في الحديث دليلٌ للمعتزلة . ماذا يقول المعتزلة ؟ يقولون : المقتول مقطوع عليه أجله . ولولا قتل القاتل لنفسه أو لغيره لعاش المقتول .
وهذا سفه قلّ مثله . ومن عجب أنهم استدلوا بهذا الحديث .«بادرني عبدي بنفسه» . فقالوا : كان أجله إلى أبعد من ذلك فبادر به .
والرد عليهم من وجوه كثرة أجتزئ منها وجهين :
الأول : المراد بالمبادرة مباشرة الأسباب المحرمة . قال ابن حجر رحمه الله :" هي مُبَادَرَة مِنْ حَيْثُ التَّسَبُّب فِي ذَلِكَ وَالْقَصْد لَهُ وَالِاخْتِيَار ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَة لِوُجُودِ صُورَتهَا". أي : وليس المراد أنّ له أجلاً غير هذا لم يبلغه . فالقاتل يعاقب لأنه باشر الأسباب المحرمة .
الثاني : كيف يكتب الله أجلاً للإنسان ولا يبلغه؟ أجل الله لا يتقدمه أحد ولا يستأخر عنه . قال تعالى :}وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ{ .
أكتفي بهذا القدر ، وأترككم في حفظ الله، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على نبينا وسيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .