قصة: جاك لندن.
ترجمة: عمّار الحامد.
افترش الهندي العجوز الثلج وجلس وحيداً عاجزاً عن فعل أي شيء بعد أن ألقى الكبر بغمامة سوداء على عينيه حجبت عنهما ضوء الحياة،
فلم يبقى له سوى أذنان واعيتان كل الوعي تجاه ما يحيط به.
هكذا أصبح كاسكوش الذي كان في سالف الأيام عميد قومه.
بلى. إنه صوت ابنته ستكمتها، لكنها كانت مشغولةً عن أبيها بترويض الكلاب لجر عربات الثلج، وأنى لها أن تتذكره، فالحي أبقى من الميت.
كانت القبيلة مهددةً بالهلاك جوعاً، لذا أصبح لزاماً على رجالها البحث عن أراضٍ جديدةٍ للصيد،
وليس لديهم وقتٌ كي يضيعوه، فها هي أيام الشمال الدفيءة وقد مرت سريعاً،
وها هي خيمة ولي عهد كاسكوش في قومه وقد سقطت بفعل تكسر الجلود التي كانت تكسوها لتنبئه أن ساعة الرحيل قد أزفت.
كان كاسكوش يعرف ان قومه في طريقهم إلى رحلة طويلةٍ وشاقةٍ في الثلوج،
لكنه لم يكن ليعرف ما إذا ستكون رحلته هي الأخرى طويلةً، شاقةً، أم قصيرةً، سهلةً،
كل ما كان يعرفه هو أنه مقبلٌ على رحلةٍ ستنقضي من جلوس،
رحلةٌ باتجاه مصير محتوم ألا وهو الموت.
في هذه الأثناء، طرق سمعه صوت ولده وهو يحث نساء القبيلة على التعجيل في إنجاز أعمالهن،
فما كان منه إلا أن أرهف السمع لذلك الصوت الموقنُ أنه غير سامعه البتة.
فجأةً تناها إلى سمعه صوت طفل يبكي، وأمٍّ تهمهم بصوتٍ عذبٍ لتهدئته.
قال كاسكوش وقد غرق في تفكير عميق: إنه كوتي; طفل أتى عليه المرض ولسوف يموت حتماً،
عند إذٍ سيحفرون له في الصخور الجليدية قبراً يخفوا فيه جثته الصغيرة عن عيون الذئاب،
وليكن! فإنه لو حصل وبقي على قيد الحياة، فالأمر لا يعدو كونه بضع سنوات تنتهي بالموت،
الموت الذي ينتظر الواحد منا أيما إنتظار بمعدةٍ ما عرفت مرةً معنى الإكتفاء.
عادَ من شروده ليصغي لأصوات الرجال وهم مشغولون عنه; هذا يربط الكلاب بالعربات بحبال متينةٍ،
وهذا يلهب ظهورهم بسوطهِ إيذاناً بالرحيل. تلك الكلاب العنيدة الكسولة التي ما أحبت يوماً العمل ما انفكت تنبْحُ بنبرةِ تذمرٍ ملأت المكان الأمر الذي أثار امتعاض كاسكوش.
بعد قليلٍ، بدأت العربات بالمسير لا شيءَ تاركةً وراءها سوى رجل عجوز أعمى لا يقوى على الحراك
وليس له إّلا أن يقضي ما تبقى من حياته دون ما أنيس، اللهم إّلا بضع أعواد توقد ناراً أشبه ما تكون بصاحبها.
سرعان ما توارت تلك الأصوات عن أذنيه خلف وحشة الصمت، ولكن ماذا هناك؟
إنها قطعة ثلج تتكسر تحت قدمي شخصٍ ما، ذلك الشخص كان ابن كاسكوش الذي وقفَ قريباً من والده ممسداً رأسه بيديه،.
كان أمراً طيباً بالنسبةِ له أن يأتي ولده فيودعه،
ساعتها تذكر رجالاً كانوا في سنه تركهم أولادهم حتى دون أن يودعوهم.
أبحر كاسكوش بذاكرته في الماضي ولم ينتبه حتى سأله ولده: أبتي، هل كل شيء على ما يرام؟
أجاب كاسكوش: أجل كل شيء على ما يرام يا ولدي.
قال الابن: يوجد خشب إلى جانبك، وها هي نارك ما تزال عامرةً، والصبح لم ينبلج بعد...
لقد عاد الثلج ليلف المكان مجدداً، أتسمع صوت تساقط الثلوج؟ سوف تثلج عما قريب،
والحق أنها بدأت تثلج ... سأذهب الآن لألحق بالرجال فقد أخذوا يسرعون،
مساكين لم يأكلوا منذ مدة ولم يبقى لهم الكثير من الوقت، فالمتاع ثقيل والمسافة طويلة...
والآن، هل كل شيء على ما يرام يا أبتي؟!
رد كاسكوش بلهجة ساخرة مشوبة بالحزن: بلى كل شيء على ما يرام، فكما ترى يا بني;
أني وقد كبرت أصبحت كورقة في غصن شجرة آيلةٍ للسقوط تنتظر أول نسمةٍ لتهبّ فتسقطها،
كل شيء على ما يرام وقد أصبحت عاجزاً حتى عن الكلام
وحتى عيناي أصبحتا عاجزتين عن أن تريانّي ما تحت قدمي،
رغم كل هذا والعيا الذي ما بارح جسدي، فإن كل شيء على ما يرام.
أطرق برأسه مصغياً إلى صوت الثلج المتساقط وهو يمتزج بصوت خطى ولده المتسارعة د
محدثاً نفسه كيف إن النار ستأكل أعواده الواحد تلو الآخر، وكيف سيقترب الموت منه خطوةً مع كل عود يحترق،
وكيف ستتسلل البرودة إلى جسمه ببطئٍ لحظة إحتراق العود الأخير، عندها ستتجمد قدماه ثم يداه
ثم ينتهي به الأمر إلى أن يتجمد بكامله، ساعتها سيشعر بالراحة الأبدية.
إذ ذاكَ أحس بشيء من الحزن سرعان ما تغلب عليه معزياً نفسه أن كل حي لا بدَ أن يموت ذات يوم،
حينها استجمع كاسكوش ما تبقى من قوى رجل عاش قريباً من الطبيعة ويعرف جيداً أن قانونها لا يرحم الضعفاء،
رجلٌ يؤمن أن التأريخ البشري برمّته لا يعدو كونه ورقة تبدأ خضراء طرية ناعمة الملمس كبشرة الوليد،
ثم ما إن يحلّ الخريف حتى تصفر وتجف وتسقط، وما إن تلامس الأرض حتى تتهشم.
سحب عوداً وألقاه في النار وعاد ليسترجع ماضيه; أيام كان عزيز قومه الذين مرت بهم أياماً عاشوا فيها بمنتهى الرخاء،
أيامَ كانوا يحجمون عن ذبح حيواناتهم التي كانت تنفق من شدة التخمةِ،
تلك الأيام التي لم تبخل فيهن نساؤهم بكثير الأولاد والأحفاد سرعان ما انقضت،
فلقد تلتهن سبع سنوات عجاف ضاقت فيهن الأرض عليهم بما رحبت، وشحت البحار بما في بطونها.
ثم تذكر كيف إنه خرج ذات يوم للعب قرب النهر مع صديقه زنكها الذي قتل في ما بعد في نهر اليوكان،
وكيف أنهما رأيا آثار أقدام كبيرةٍ تبعاها فأرشدتهما إلى أيل عجوز يسير وراء قطيع ذئاب.
قال زنكها: انظر إنه لا يستطيع اللحاق بهم، يبدو متعباً، انظر كيف تخلف عن القطيع.
ولكن هيهات أن تترك الذئاب صيداً سهلاً كهذا، وبالفعل فقد تلاقفوه هذا يَعَضّهُ في أنفه وهذا في ساقه حتى أثخنوه جراحاً، غير أنه قاوم ولم يتوقف عن اللحاق بهم.
أخذ قلبيهما يخفقان بسرعة، لكن المنظر كان جديراً بالمشاهدة، لذا أخذا يتبعان تلك الخطى التي كانت لكل واحدةٍ منهن قصة.
وقف الأيل ليقاتل في مكان تراكم فوقه الجليد لعدة أقدام واضعاً أحد الذئاب بين أرجله وأخذ يرفسه حتى الموت ثم ألقى به بعيداً،
بعدها حاول أن يحتمي فوق تل عالٍ بيد أن الذئاب آلت إّلا أن تهاجمه من خلفه،
فكان أن نزل فسحق ذئبين آخرين، ولكن نهايته باتت وشيكة.
اقترب كاسكوش وزنكها من ساحة المعركة وقد حبسا أنفاسهما مخافة أن يلمحهما الذئاب،
حينها رأيا ما آل إليه أمر ذلك الأيل الشجاع.
لقد رافق ذلك المنظر كاسكوش طوال حياته حتى أنه أصبح هاجساً يقضُّ مضجعه،
ومن يوم ذاك، ما انفك يفكر كيف سينتهي به المطاف في بيئة ليس للضعيف فيها مكان.
في تلك الأثناء، بدأت النار تخفت شيئاً فشيئاً، وشيئاً فشيئاً، بدأ البرد يتسلل إلى جسمه،
فسحب عودان آخران وألقاهما في النار التي أصبحت تمثل له كل شيء.
راوده شعور قاتل بالوحشة، ولكن ما هذا الصوت الذي يحدثه الخشب؟
أبداً لم يكن ذلك الصوت بفعل إحتراق الخشب،. تجمد الدم في عروقه عندما أدرك أنه صوت ذئب.
أعاد ذلك العواء المشؤوم إلى ذاكرته صورة الأيل الذي قطعته الذئاب إرباً،
ولون دمه الأحمر القانِ الذي طغى على لون الثلج الأبيض.
تذكر منظر العظام التي تناثرت قطعاً رماديةً هنا وهناك
ومنظر الذئاب التي هاجمت فريستها بخطاً مسرعةٍ وأعينٍ لامعةٍ وأسنان حادةٍ
وألسنٍ تدلت رطبةً من افواهٍ سال لعابها جوعاً،
وتذكر كيف التفوا حوله مشكلين حلقةً سرعان ما ضاقت.
فجأةً، أحس كاسكوش أن شيئاً رطباً يلمس وجهه، قفزت روحه إلى عنان السماء عندما أدرك أن ذلك الشيء كان أنف ذئب،
وبلا شعور، مد يده إلى النار فسحب عوداً مشتعلاً ورفعه بوجه الذئب، ولكن دون جدوى،
فقد إستدار الذئب وأطلق صيحةً ما إن سمعها رفاقه حتى أسرعوا نحوه ملبين دعوته بعواءٍ ملئَ الحناجر وجوع ملئَ البطون.
أصاخ الهندي العجوز بسمعه إلى الذئاب وهي تلتف حوله وحول ناره التي بدأت تنطفئ،
فلوح في وجوههم بعوده، بيد أنهم لم يبتعدوا، فدنا أحدهم منه كما لو أنه أراد تذوق فريسته.
أخذت الحلقة تضيق حول كاسكوش الذي ظن أن لم يبقى ذئب في البرّية لم يأتي إلى وليمته،
وفي إشارة لاستسلامه، أنزل عوده إلى الأرض حيث إنطفأ.
فعل كاسكوش هذا متسائلاً: لماذا يجب أن أقاوم؟ وما هذا التشبثُ الرهيبُ بالحياة؟
أعادت دائرة الذئاب التي ما زالت تضيق وتضيق إلى ذاكرته صورة الأيل العجوز
الذي كافح من أجل البقاء بكل ما أوتي من قوة، فدسّ رأسه يائساً بين ركبتيه
وكأن لسان حاله يقول: أليست هذه سنّة الحياة ؟؟؟
ودي لكم ,..
ترجمة: عمّار الحامد.
افترش الهندي العجوز الثلج وجلس وحيداً عاجزاً عن فعل أي شيء بعد أن ألقى الكبر بغمامة سوداء على عينيه حجبت عنهما ضوء الحياة،
فلم يبقى له سوى أذنان واعيتان كل الوعي تجاه ما يحيط به.
هكذا أصبح كاسكوش الذي كان في سالف الأيام عميد قومه.
بلى. إنه صوت ابنته ستكمتها، لكنها كانت مشغولةً عن أبيها بترويض الكلاب لجر عربات الثلج، وأنى لها أن تتذكره، فالحي أبقى من الميت.
كانت القبيلة مهددةً بالهلاك جوعاً، لذا أصبح لزاماً على رجالها البحث عن أراضٍ جديدةٍ للصيد،
وليس لديهم وقتٌ كي يضيعوه، فها هي أيام الشمال الدفيءة وقد مرت سريعاً،
وها هي خيمة ولي عهد كاسكوش في قومه وقد سقطت بفعل تكسر الجلود التي كانت تكسوها لتنبئه أن ساعة الرحيل قد أزفت.
كان كاسكوش يعرف ان قومه في طريقهم إلى رحلة طويلةٍ وشاقةٍ في الثلوج،
لكنه لم يكن ليعرف ما إذا ستكون رحلته هي الأخرى طويلةً، شاقةً، أم قصيرةً، سهلةً،
كل ما كان يعرفه هو أنه مقبلٌ على رحلةٍ ستنقضي من جلوس،
رحلةٌ باتجاه مصير محتوم ألا وهو الموت.
في هذه الأثناء، طرق سمعه صوت ولده وهو يحث نساء القبيلة على التعجيل في إنجاز أعمالهن،
فما كان منه إلا أن أرهف السمع لذلك الصوت الموقنُ أنه غير سامعه البتة.
فجأةً تناها إلى سمعه صوت طفل يبكي، وأمٍّ تهمهم بصوتٍ عذبٍ لتهدئته.
قال كاسكوش وقد غرق في تفكير عميق: إنه كوتي; طفل أتى عليه المرض ولسوف يموت حتماً،
عند إذٍ سيحفرون له في الصخور الجليدية قبراً يخفوا فيه جثته الصغيرة عن عيون الذئاب،
وليكن! فإنه لو حصل وبقي على قيد الحياة، فالأمر لا يعدو كونه بضع سنوات تنتهي بالموت،
الموت الذي ينتظر الواحد منا أيما إنتظار بمعدةٍ ما عرفت مرةً معنى الإكتفاء.
عادَ من شروده ليصغي لأصوات الرجال وهم مشغولون عنه; هذا يربط الكلاب بالعربات بحبال متينةٍ،
وهذا يلهب ظهورهم بسوطهِ إيذاناً بالرحيل. تلك الكلاب العنيدة الكسولة التي ما أحبت يوماً العمل ما انفكت تنبْحُ بنبرةِ تذمرٍ ملأت المكان الأمر الذي أثار امتعاض كاسكوش.
بعد قليلٍ، بدأت العربات بالمسير لا شيءَ تاركةً وراءها سوى رجل عجوز أعمى لا يقوى على الحراك
وليس له إّلا أن يقضي ما تبقى من حياته دون ما أنيس، اللهم إّلا بضع أعواد توقد ناراً أشبه ما تكون بصاحبها.
سرعان ما توارت تلك الأصوات عن أذنيه خلف وحشة الصمت، ولكن ماذا هناك؟
إنها قطعة ثلج تتكسر تحت قدمي شخصٍ ما، ذلك الشخص كان ابن كاسكوش الذي وقفَ قريباً من والده ممسداً رأسه بيديه،.
كان أمراً طيباً بالنسبةِ له أن يأتي ولده فيودعه،
ساعتها تذكر رجالاً كانوا في سنه تركهم أولادهم حتى دون أن يودعوهم.
أبحر كاسكوش بذاكرته في الماضي ولم ينتبه حتى سأله ولده: أبتي، هل كل شيء على ما يرام؟
أجاب كاسكوش: أجل كل شيء على ما يرام يا ولدي.
قال الابن: يوجد خشب إلى جانبك، وها هي نارك ما تزال عامرةً، والصبح لم ينبلج بعد...
لقد عاد الثلج ليلف المكان مجدداً، أتسمع صوت تساقط الثلوج؟ سوف تثلج عما قريب،
والحق أنها بدأت تثلج ... سأذهب الآن لألحق بالرجال فقد أخذوا يسرعون،
مساكين لم يأكلوا منذ مدة ولم يبقى لهم الكثير من الوقت، فالمتاع ثقيل والمسافة طويلة...
والآن، هل كل شيء على ما يرام يا أبتي؟!
رد كاسكوش بلهجة ساخرة مشوبة بالحزن: بلى كل شيء على ما يرام، فكما ترى يا بني;
أني وقد كبرت أصبحت كورقة في غصن شجرة آيلةٍ للسقوط تنتظر أول نسمةٍ لتهبّ فتسقطها،
كل شيء على ما يرام وقد أصبحت عاجزاً حتى عن الكلام
وحتى عيناي أصبحتا عاجزتين عن أن تريانّي ما تحت قدمي،
رغم كل هذا والعيا الذي ما بارح جسدي، فإن كل شيء على ما يرام.
أطرق برأسه مصغياً إلى صوت الثلج المتساقط وهو يمتزج بصوت خطى ولده المتسارعة د
محدثاً نفسه كيف إن النار ستأكل أعواده الواحد تلو الآخر، وكيف سيقترب الموت منه خطوةً مع كل عود يحترق،
وكيف ستتسلل البرودة إلى جسمه ببطئٍ لحظة إحتراق العود الأخير، عندها ستتجمد قدماه ثم يداه
ثم ينتهي به الأمر إلى أن يتجمد بكامله، ساعتها سيشعر بالراحة الأبدية.
إذ ذاكَ أحس بشيء من الحزن سرعان ما تغلب عليه معزياً نفسه أن كل حي لا بدَ أن يموت ذات يوم،
حينها استجمع كاسكوش ما تبقى من قوى رجل عاش قريباً من الطبيعة ويعرف جيداً أن قانونها لا يرحم الضعفاء،
رجلٌ يؤمن أن التأريخ البشري برمّته لا يعدو كونه ورقة تبدأ خضراء طرية ناعمة الملمس كبشرة الوليد،
ثم ما إن يحلّ الخريف حتى تصفر وتجف وتسقط، وما إن تلامس الأرض حتى تتهشم.
سحب عوداً وألقاه في النار وعاد ليسترجع ماضيه; أيام كان عزيز قومه الذين مرت بهم أياماً عاشوا فيها بمنتهى الرخاء،
أيامَ كانوا يحجمون عن ذبح حيواناتهم التي كانت تنفق من شدة التخمةِ،
تلك الأيام التي لم تبخل فيهن نساؤهم بكثير الأولاد والأحفاد سرعان ما انقضت،
فلقد تلتهن سبع سنوات عجاف ضاقت فيهن الأرض عليهم بما رحبت، وشحت البحار بما في بطونها.
ثم تذكر كيف إنه خرج ذات يوم للعب قرب النهر مع صديقه زنكها الذي قتل في ما بعد في نهر اليوكان،
وكيف أنهما رأيا آثار أقدام كبيرةٍ تبعاها فأرشدتهما إلى أيل عجوز يسير وراء قطيع ذئاب.
قال زنكها: انظر إنه لا يستطيع اللحاق بهم، يبدو متعباً، انظر كيف تخلف عن القطيع.
ولكن هيهات أن تترك الذئاب صيداً سهلاً كهذا، وبالفعل فقد تلاقفوه هذا يَعَضّهُ في أنفه وهذا في ساقه حتى أثخنوه جراحاً، غير أنه قاوم ولم يتوقف عن اللحاق بهم.
أخذ قلبيهما يخفقان بسرعة، لكن المنظر كان جديراً بالمشاهدة، لذا أخذا يتبعان تلك الخطى التي كانت لكل واحدةٍ منهن قصة.
وقف الأيل ليقاتل في مكان تراكم فوقه الجليد لعدة أقدام واضعاً أحد الذئاب بين أرجله وأخذ يرفسه حتى الموت ثم ألقى به بعيداً،
بعدها حاول أن يحتمي فوق تل عالٍ بيد أن الذئاب آلت إّلا أن تهاجمه من خلفه،
فكان أن نزل فسحق ذئبين آخرين، ولكن نهايته باتت وشيكة.
اقترب كاسكوش وزنكها من ساحة المعركة وقد حبسا أنفاسهما مخافة أن يلمحهما الذئاب،
حينها رأيا ما آل إليه أمر ذلك الأيل الشجاع.
لقد رافق ذلك المنظر كاسكوش طوال حياته حتى أنه أصبح هاجساً يقضُّ مضجعه،
ومن يوم ذاك، ما انفك يفكر كيف سينتهي به المطاف في بيئة ليس للضعيف فيها مكان.
في تلك الأثناء، بدأت النار تخفت شيئاً فشيئاً، وشيئاً فشيئاً، بدأ البرد يتسلل إلى جسمه،
فسحب عودان آخران وألقاهما في النار التي أصبحت تمثل له كل شيء.
راوده شعور قاتل بالوحشة، ولكن ما هذا الصوت الذي يحدثه الخشب؟
أبداً لم يكن ذلك الصوت بفعل إحتراق الخشب،. تجمد الدم في عروقه عندما أدرك أنه صوت ذئب.
أعاد ذلك العواء المشؤوم إلى ذاكرته صورة الأيل الذي قطعته الذئاب إرباً،
ولون دمه الأحمر القانِ الذي طغى على لون الثلج الأبيض.
تذكر منظر العظام التي تناثرت قطعاً رماديةً هنا وهناك
ومنظر الذئاب التي هاجمت فريستها بخطاً مسرعةٍ وأعينٍ لامعةٍ وأسنان حادةٍ
وألسنٍ تدلت رطبةً من افواهٍ سال لعابها جوعاً،
وتذكر كيف التفوا حوله مشكلين حلقةً سرعان ما ضاقت.
فجأةً، أحس كاسكوش أن شيئاً رطباً يلمس وجهه، قفزت روحه إلى عنان السماء عندما أدرك أن ذلك الشيء كان أنف ذئب،
وبلا شعور، مد يده إلى النار فسحب عوداً مشتعلاً ورفعه بوجه الذئب، ولكن دون جدوى،
فقد إستدار الذئب وأطلق صيحةً ما إن سمعها رفاقه حتى أسرعوا نحوه ملبين دعوته بعواءٍ ملئَ الحناجر وجوع ملئَ البطون.
أصاخ الهندي العجوز بسمعه إلى الذئاب وهي تلتف حوله وحول ناره التي بدأت تنطفئ،
فلوح في وجوههم بعوده، بيد أنهم لم يبتعدوا، فدنا أحدهم منه كما لو أنه أراد تذوق فريسته.
أخذت الحلقة تضيق حول كاسكوش الذي ظن أن لم يبقى ذئب في البرّية لم يأتي إلى وليمته،
وفي إشارة لاستسلامه، أنزل عوده إلى الأرض حيث إنطفأ.
فعل كاسكوش هذا متسائلاً: لماذا يجب أن أقاوم؟ وما هذا التشبثُ الرهيبُ بالحياة؟
أعادت دائرة الذئاب التي ما زالت تضيق وتضيق إلى ذاكرته صورة الأيل العجوز
الذي كافح من أجل البقاء بكل ما أوتي من قوة، فدسّ رأسه يائساً بين ركبتيه
وكأن لسان حاله يقول: أليست هذه سنّة الحياة ؟؟؟
ودي لكم ,..