جنرال مصر

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
جنرال مصر

جنرال مصر لشباب الحريه


    دارنا الدمشقية

    غاردينيا
    غاردينيا
    مدير عام


    عدد المساهمات : 1090
    تاريخ التسجيل : 30/05/2011

    دارنا الدمشقية Empty دارنا الدمشقية

    مُساهمة  غاردينيا الخميس يونيو 16, 2011 7:28 pm

    هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة.

    إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ,و لكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر ..و إنما أظلم دارنا.

    و الذين سكنوا دمشق, و تغلغلوا في حاراتها و زواريبها الضيقة, يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون...

    بوابة صغيرة من الخشب تنفتح. و يبدأ الإسراء على الأخضر, و الأحمر, و الليلكي, و تبدأ سمفونية الضوء و الظل و الرخام.

    شجرة النارنج تحتضن ثمارها, و الدالية حامل, و الياسمينة ولدت ألف قمر أبيض و علقتهم على قضبان النوافذ..و أسراب السنونو لا تصطاف إلا عندنا..

    أسود الرخام حول البركة الوسطى تملأ فمها بالماء.. و تنفخه.. و تستمر اللعبة المائية ليلاً و نهاراً..لا النوافير تتعب.. و لا ماء دمشق ينتهي..

    الورد البلدي سجاد أحمر ممدود تحت أقدامك.. و الليلكة تمشط شعرها البنفسجي, و الشمشير, و الخبيزة, و الشاب الظريف,و المنثور, و الريحان, و الأضاليا.. و ألوف النباتات الدمشقية التي أتذكر ألوانها و لا أتذكر أسمائها.. لا تزال تتسلق على أصابعي كلما أرت أن أكتب..

    القطط الشامية النظيفة الممتلئة صحةً و نضارة تصعد إلى مملكة الشمس لتمارس غزلها و رومانتيكيتها بحرية مطلقة, و حين تعود بعد هجر الحبيب و معها قطيع من صغارها ستجد من يستقبلها و يطعمها و يكفكف دموعها..

    الأدراج الرخامية تصعد.. و تصعد..على كيفها..و الحمائم تهاجر و ترجع على كيفها.. لا أحد يسألها ماذا تفعل؟ و السمك الأحمر يسبح على كيفه.. و لا أحد يسأله إلى أين؟

    و عشرون صحيفة فل في صحن الدار هي كل ثروة أمي.

    كل زر فلٍ عندها يساوي صبياً من أولادها.. لذاك كلما غافلناها و سرقنا ولداً من أولادها..بكت..و شكتنا إلى الله..

    ***

    ضمن نطاق هذا الحزام الأخضر.. و لدت, و حبوت, و نطقت كلماتي الأولى.

    كان إصطدامي بالجمال قدراً يومياً. كنت إذا تعثرت أتعثر بجناح حمامة.. و إذا سقطت أسقط على حضن وردة..

    هذا البيت الدمشقي الجميل استحوذ على كل مشاعري و أفقدني شهية الخروج إلى الزقاق.. كما يفعل الصبيان في كل الحارات.. و من هنا نشأ عندي هذا الحس (البيتوتي) الذي رافقني في كل مراحل حياتي.

    إنني أشعر حتى اليوم بنوع من الإكتفاء الذاتي, يجعل التسكع على أرصفة الشوارع, و اصطياد الذباب في المقاهي المكتظة بالرجال, عملاً ترفضه طبيعتي.

    و إذا كان نصف أدباء العالم قد تخرج من أكادمية المقاهي, فإنني لم أكن من متخرجيها.

    لقد كنت أؤمن أن العمل الأدبي عمل من أعمال العبادة, له طقوسه و مراسمه و طهارته, و كان من الصعب علي أن أفهم كيف يمكن أن يخرج الأدب الجاد من نرابيش النراجيل, و طقطقة أحجار النرد..

    ***
    نزار قباني






      الوقت/التاريخ الآن هو الأربعاء مايو 08, 2024 2:22 pm